--------------------------------------------------------------------------------
وانتقلت أنا وأطفالي إلي مدينة بعيدة وهناك استأجرت غرفة صغيرة بحمامها , واشتريت موقدا ً صغيرا ً وسريرا ً مستعملا ً ليضمني أنا وأطفالي , وبعض الأواني القديمة المستعملة , أعترف أنها كانت غرفة حقيرة حتى في نظر الفقراء ولكن ما جعلها مثل حلم بنظري هو أنني بوحدي فيها مع أطفالي فأنا التي أحدد مصيري بعد إرادة الله طبعا ً فلا أحد بعد اليوم سيرسم لي طريق حياتي البائسة.
بدأت أبحث عن عمل شريف أعيش منه أنا وصغاري ولقد سخر الله لي جيران طيبين ساعدوني كثيرا ً فقد كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام والملابس القديمة وأحسنوا إلي فجزاهم الله خير الجزاء ووجدت عملا ً حكوميا ً كمستخدمة في إحدى المدارس الثانوية القريبة من بيتي , ولا أنسى أول راتب قبضته في حياتي , صحيح أنه كان بسيطا ً ولكن دموعي انهمرت من عيني لحظه استلامه بكيت كثيراً
وحمدت الله على رزقه وإعانتي على لقمة العيش الشريفة , اشتريت لأطفالي ملابس جديدة وألعابا ً وطعاما ً طيبا ً ولأول مرة منذ أربعة أشهر أطبخ لحما ً ودجاجا ً لأطفالي , واشتريي لهم بسكويتا ً وشو كولاته , كنت أرى السعادة تتراقص في أعينهم وهم يتلذذون بما أحضر لهم خاصة حين هجرنا الخوف من ذلك المجرم الذي كان يضربنا في كل لحظة وكأننا كلاب شريرة جاءت تتسول على بابه . مرت سنة كاملة علي وأنا في وظيفتي استطعت خلالها أن أكسب احترام مديرتي وتعاطف المعلمات وحب الطالبات بما منحني الله من تفاني بالعمل وإخلاص , وذات يوم سألت نفسي لم لا أكمل تعليمي الثانوي خاصة أنني في مدرسة ثانوية وعرضت الأمر على مديرتي فشجعتني كثيرا ً وفعلا ً قدمت أوراق انتسابي وكانت صدفة أن ابني البكر يدرس في الصف الأول الابتدائي وأنا في الصف الأول ثانوي . اجتهدت كثيرا َ في دراستي بالرغم من الأحمال الملقاة على عاتقي كأم وموظفة وطالبة ,وفي خلال ثلاث سنوات حصلت علي شهادة الثانوية العامة بنسبة سبع وتسعون بالمائة وكانت هذه النسبة مفأجاة لكل من حولي بكيت كثيرا ً وأنا أرى ثمار جهدي بدأت تنضج . . . انتقلت من عملي كمستخدمه وقدمت على وظيفة كاتبه في إحدى الدوائر الحكومية براتب جيد بالإضافة إلي تقديم أوراق انتسابي إلي الجامعة قسم التربية الإسلامية , استأجرت شقة صغيرة مكونة من غرفتين وصالة ومطبخ مستقل وحمام ولأول مره يدخل التلفزيون بيتنا بعد أن أخذت سلفه من بنك أثثت فيها شقة أثاثا ً جديدا ً صحيح أنه كان بسيطا ً ولكنه لم يكن مستعملا ً وبدأت ارتاح نوعا ً ما في حياتي خاصة أن أطفالي جميعهم دخلوا المدارس وأصبحوا من المتفوقين دراسيا ً وأخلاقيا ً , اشتريت لأطفالي ما كانت نفوسهم تهفوا عليه من ألعاب رخيصة , وملابس بسيطة وحاولت قدر الإمكان أن أعوضهم عن حاجتهم إلي العائلة الكبيرة , فكونت صداقات عميقة مع زميلات وأخوات في الله , كن نعم العون لي فكنا نذهب في نزهات وزيارات سوية نُروح عن أطفالنا والذي كان يثلج صدري ويمنحني الصبر والأمل هو نظرات الحب التي كنت أراها في عيون أطفالي وتلك القبلات اللذيذة التي يعطرونني بها بمناسبة أو بدونها , مرت أربع سنوات عصيبة حصلت فيها علي البكالوريوس بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى ثم استقلت من عملي ككاتبة وتم تعييني معلمة في مدرسة ثانوية كان أبني الكبير في الثالثة عشر من عمره حين أصبحت معلمة احتضنني بقوه وهو لا يكاد يغالب دموعه قائلا ً "أمي أنا فخور بك وأنت أعظم أم في العالم " واحتضنتهم جميعا ً وظللنا نبكي بلا شعور لساعات طويلة , ولأول مرة حياتي أقبض مرتبا ً ضخما ً , تصدقت بنصفه كشكر لله على نعمه المتوالية علي وبما يسر لي من أسباب الرزق وبنصفه الباقي اشتريت لأطفالي جميع ما يحتاجون إليه وبدأت فيما بعد أدخر جزءا ً كبيرا ً منه لبناء منزل خاص بنا , وقدمت على الماجستير وحصلت عليها خلال سنتين فقط بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف , وبدأت في بناء منزلنا الكبير المكون من طابقين به عشر غرف وصالتين ومطبخ ومستودع وحديقة كبيرة ومسبح جميل وقدمت على الدكتوراه وكان مشوارها صعبا ً جدا ً خاصة أن أطفالي بدؤا يكبرون ويتدرجون في فصولهم فكان الإرهاق يكاد يقتلني أحيانا ً وأنا أشتت نفسي بين عملي كمعلمة وبين مذاكرتي للدكتوراه وأبحاثي وبين مذاكرة أولادي وبين الإشراف على البناء والتأثيث والذي كان أثاثا ً فخما ً ورائعا ً , حصلت خلالها على درجة الدكتوراه وبإمتياز أيضا ً مع مرتبة الشرف وتم تعييني كأستاذة في الجامعة , وأنا في السابعة والثلاثين من عمري , أتعلمون لحظة استلامي لشهادتي بمن فكرت ؟؟ لقد فكرت بأمي , ترى لو رأتني في هذا المشهد فهل ستبكي من الفرح , أم أنها ستسألني عن العائد المادي الذي سأجنيه من وراء ذلك ؟!
ولكن لا تعتقدوا أني إنسانة عاقة لوالدتي أو أنني لم أحاول صلتها في ما مضى بالعكس لقد ذهبت إليها أكثر من مرة خلال مشوار حياتي فوجدتها كما هي لم تتغير تتسكع بين بيوت الجيران وتهفوا إلي المال دائما ً أيا ً كان مصدره حتى أنها كثيرا ً لا تسأل شقيقاتي من أين يأتين بالمال بل أهم من ذلك أن يعطينها شيئا ً منه . . . أما والدي فقد توفى بعد زوجي بسنة واحدة اقتطعت جزءا ً من مرتبي شهريا ً وكنت أرسله لها بإنتظام إلي أن توفاها الله بعد ذلك . . أما إخوتي وأخواني فلم يكن يُشرفني التعرف إليهم أو تواجدهم في حياتي فابتعدت عنهم من أجل أبنائي , ابتسمت الحياة لي بعد عبوس طويل فها أنا الآن لي مركزي الإجتماعي وأعيش في بيت فخم وعندي الخدم والسائقين وأبنائي جميعهم قد تخرجوا من جامعاتهم العلمية فابني الأكبر أصبح طبيبا ً جراحا ً والآخر مهندس معماري والصغرى طبيبة أطفال وقد زوجتهم جميعا ً وأصر أبني الكبير أن يعيش هو وزوجته معي فملآ علي البيت بالحياة وضحكات الأحفاد وها أنا الآن في الخامسة والخمسون من عمري مازلت أحتفظ بمسحه من جمالي برغم جميع الظروف التي مررت بها . . .
قصتي هذه أهديها إلي كل يائس ومحبط لعل بها من بصيص الأمل ما يبدد لحظات اليأس في حياته !!
وصدقوني لو استسلمت لليأس ولحظاته المريرة لما وصلت إلي هذه الحياة التي أعيشها الآن بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بفضل تمسكي بالأمل رغم كل الخطوب من حولي .
اليأس قاتل حين نشرع له أبوابنا كضيف ثقيل لايبالي بمشاعر الآخرين ...
فهذا اليائس إياك أن تفتح له بابك وإن ادلهمت من حولك الصعاب ...!!
فصدقوني ومن تجربة خضتها واستطعت النجاح فيها ليس هناك أجمل من التفاؤل والتشبث بالأمل حتى وإن كان صغيرا ً .
والأهم هو عدم اليأس من رحمة الله .